الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
واعلم أنه قد مر في هذا الكتاب أن الجبري يقول القدرية التي ذمها النبي صلى الله عليه وسلم هو المعتزلي الذي ينفي كون الطاعة والمعصية بتقدير الله. والمعتزلة تقول: الجبري الذي يدعي أن الزنا والسرقة وغيرهما من القبائح كلها بتقدير الله تعالى. وكذا حال السني لأنه وإن كان يثبت للعبد كسبًا إلا أنه يسند الخير والشر إلى القضاء والقدر وقال بعض العلماء: إن كل واحد من الفريقين لا يدخل في اسم القدرية إلا إذا كان النافي نافيًا لقدرة الله لا أن يقول: هو قادر على أن يلجىء العبد إلى الطاعة ولكن حكمته اقتضت بناء التكليف على الاختيار وإلا كان المثبت منكرًا للتكليف وهم أهل الإباحة القائلين بأن الكل إذا كان بتقدير الله فلا فائدة في التكليف. ولعل وجه تشبيههم بالمجوس أنهم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم كالمجوس يام بين الكفار المتقدمين فكما أن المجوس نوع من الكفرة أضعف شبهة وأشد مخالفة للعقل فكذلك القدرية في هذه الأمة وبهذا التأويل لا يلزم الجزم بأنهم من أهل النار، وأيضًا لعل اسم القدرية لأهل الإثبات أولى منه لأهل النفي كما تقول: دهري لأنه يقول بالدهر والثنوية لإثباتهم إليهن اثنين أو نورًا وظلمة. وقال بعضهم: هذا الاسم بأهل النفي أولى لأن الآية نزلت في منكري القدرة وهم المشركون القائلون بأن الحوادث كلها مستندة إلى اتصالات الكواكب وانصرافاتها فلا قدرة لله على شيء من ذلك. قوله: {وما أمرنا إلا واحدة} أي إلا كلمة واحدة وهي (كن) تأكيد إثبات القدرة له وقد مر مثله في (النحل). وقوله: {كلمح بالبصر} تأكيد على تأكيد وهذا تمثيل وإلا فتكوينه وإيجاده عين مشيئته وأرادته. ومعنى الخلق والأمر أيضًا تقدم مشتبعًا في (الأعراف) ثم هددهم مرة أخرى بقوله: {ولقد أهلكنا أشياعكم} أي أشباهكم في الكفر من الأمم. ثم ذكر نوعًا آخر من التهديد مع بيان كمال القدرة والعلم فقال: {وكل شيء فعلوه في الزبر} أي في صحف الحفظة.قال النحويون: هذا مما التزم فيه الرفع لأن النصب يكون نصًا في معنى غير مقصود بل فاسد إذ يلزم منه أن يكون {كل شيء} مفعولًا {في الزبر} وهذا معنى غير مستقيم كما ترى.وأما الرفع فيحتمل معنيين. أحدهما صحيح مقصود وهو أن يقدر قوله: {فعلوهن} صفة ل {شيء} والظرف خبر أي كل شيء مفعول للناس فإنه في الزبر. والآخر أن تقدر الجملة خبر أو يبقى الظرف لغوًا فيؤدي الكلام حينئذ مؤدي النصب، ولا ريب أن الوجه الذي يصح المعنى فيه على أحد الاحتمالين أولى من الذي يكون نصًا في المعنى الفاسد. ثم أكدالمعنى المذكور بقوله: {وكل صغير وكبير} من الأعمال بل مما وجد ويوجد {مستطر} أي مسطور في اللوح. ثم ختم السورة بوعد المتقين. والنهر جنس أريد به الأنهار اكتفى به للفاصلة. ولما سلف مثله مرارًا كقوله: {إن المتقين في جنات وعيون} [الذاريات: 15] وقيل: معناه السعة والضياء من النهار {في مقعد صدق} وفي مكان مرضيّ من الجنة مقربين {عند مليك مقتدر} لا يكتنه كنه عظمته واقتداره نظيره قول القائل (فلان في بلدة كذا في دار كذا مقرب عند الملك). ويحتمل أن يكون الظرف صفة {مقعد صدق} كما يقال (قليل عند أمين خير من كثير عند خائن). قال أهل اللغة: القعود يدل على المكث بخلاف الجلوس ولهذا يقال للمؤمن (مقعد دون مجلس) ومنه قواعد البيت، وكذا في سائر تقاليبه من نحو وقع أي لزق بالأرض وعقد. والإضافة في {مقعد صدق} كهي في قولك (رجل صدق) أي رجل صادق في الرجولية كامل فيها. ويجوز أن يكون سبب الإضافة أن الصادق قد أخبرعنه وهو الله ورسوله، أو الصادق اعتقد فه وهو المكلف، أو يراد مقعد لا يوجد فيه كذب فإن من وصل إلى الله استحال عليه إلا الصدق وهو تبارك وتعالى أعلم وأجل وأكرم. اهـ.
.قال الخطيب الشربيني: سورة القمر، وتسمى اقتربت، مكية إلا {سيهزم الجمع ويولون الدبر} الآيات وهي خمس وخمسون آية وثلاثمائة واثنتان وأربعونكلمة وألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفًا.{بسم الله} أي الذي أحاط علمه فتمت قدرته {الرحمن} الذي وسعت رحمته كل شيء فعمت الشقي والسعيد نعمته {الرحيم} الذي خص بإتمام نعمته من اصطفاه فأسعدتهم رحمته.{اقتربت الساعة} دنت القيامة وفي أول هذه السورة مناسبة لآخر ما قبلها، وهو قوله تعالى: {أزفت الأزفة} [النجم:].فكأنه أعاد ذلك مستدلًا عليه بقوله تعالى: {أزفت الأزفة} فهو حق إذ القمر انشق. وقوله تعالى: {وانشق القمر} ماض على حقيقته وهو قول عامّة المسلمين إلا من لا يلتفت إلى قوله وقد صح في الأخبار أنّ القمر انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّتين، وعن ابن مسعود قال: «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا» وروى أنس بن مالك أنّ أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حرًا بينهما. وقال سنان عن قتادة: فأراهم انشقاق القمر مرتين. وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله: لم ينشق بمكة. وقال مقاتل: انشق القمر ثم التأم بعد ذلك وقيل انشق بمعنى سينشق يوم القيامة، وأوقع الماضي موقع المستقبل وهو خلاف الإجماع وقيل انشق بمعنى انفلق عنه الظلام عند طلوعه كما يسمى الصبح فلقًا وأنشد النابغة:وإنما ذكرت ذلك تنبيهًا على ضعفه. وروى أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش: سحركم ابن أبي كبشة فسلوا السفار فسألوهم فقالوا نعم قد رأيناه فأنزل الله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر}.{وإن يروا} أي: كفار قريش {آية} أي: معجزة له صلى الله عليه وسلم كانشقاق القمر {يعرضوا} عنها {ويقولوا} هذا {سحر مستمرّ} أي: ذاهب سوف يذهب ويبطل من قولهم مرّ الشيء واستمرّ إذا ذهب مثل قولهم: قر واستقر قاله مجاهد وقتادة، وقال أبو العالية والضحاك: مستمرّ أي: قوي شديد، من قولهم: مر الحبل إذا صلب واشتد، وأمررته: إذا أحكمت فتله، واستمر الشيء إذا قوي واستحكم، وقيل: مستمرّ أي دائم، فإنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يأتي كل زمان بمعجز فقالوا: هذا سحر مستمرّ دائم لا يختلف بالنسبة إلى شيء بخلاف سحر السحرة، فإنّ بعضهم يقدر على أمر وأمرين وثلاثة ويعجز عن غيرها وهو قادر على الكلّ قاله الزمخشري ومنه قول الشاعر: وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال ألا إنّ الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم مستمرّ دائم مطرد، وكل شيء قد انقادت طريقه ودامت حاله قيل فيه قد استمّر وقال أبو حيان: سبب نزولها أنّ مشركي قريش قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم إن كنت صادقًا فشق لنا القمر فرقتين ووعدوا بالإيمان إن فعل ذلك وقال ليلة بدرأي ليلة أربعة عشر في الشهر فسأل ربه فانشق القمر فقالوا سحر مستمرّ ولم يؤمنوا.{وكذبوا} بكون انشقاقه دالًا على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وجزموا بالتكذيب عنادًا {واتبعوا} أي: بمعالجة فطرتهم الأولى المستقيمة في دعائها إلى التصديق {أهواءهم} في أنه صلى الله عليه وسلم سحر القمر وأنه خسوف في القمر وظهور شيء في جانب آخر من الجوّ يشبه نصف القمر وأنه سحر أعيننا وأنّ القمر لم يصبه شيء فهذه أهواؤهم.قال القشيري: إذا حصل اتباع الهوى فمن شؤمه يحصل التكذيب لأنّ الله تعالى يلبس على قلب صاحبه حتى لا يستبصروا الرشد واتباع الرضا مقرون بالتصديق لأنّ الله تعالى ببركات الاتباع للحق يفتح عين البصيرة فيأتي بالتصديق.{وكل أمر} أي: من أموركم من الخير أو الشرّ {مستقرّ} أي: بأهله في الجنة أو النار وقال قتادة وكل أمر مستقرّ فالخير مستقر بأهل الخير والشرّ مستقرّ بأهل الشرّ وقيل مستقرّ قول المصدّقين والمكذبين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعذاب، وقيل: كل أمر مستقرّ في علم الله تعالى لا يخفى عليه شيء فهم كذبوا واتبعوا أهواءهم والأنبياء صدقوا وبلغوا كقوله تعالى: {لا يخفى على الله منهم شيء} [غافر:].{ولقد جاءهم} أي أهل مكة في القرآن قبل الانشقاق {من الأنباء} أي: أخبار إهلاك الأمم الماضية المكذبة رسلهم لأنّ الأنباء الأخبار العظام التي لها وقع كقول الهدهد {وجئتك من سبأ بنبأ يقين} [النمل:].لأنه كان خبرًا عظيمًا له وقع وخطر وقال تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ} [الحجرات:].أي بأمر عظيم له خطر وإنما يجب التثبت فيما يتعلق به حكم ويترتب عليه أمر ذو بال {ما فيه} خاصة {مزدجر} أي: عمّاهم فيه من الباطل، ولكن لم يزدجر منهم إلا من أراد الله تعالى.تنبيه:المزدجر اسم مصدر أي ازدجار أو اسم مكان أي موضع ازدجار والدال بدل من تاء الافتعال وازدجرته وزجرته نهيته بغلظة وما موصولة أو موصوفة.وقوله تعالى: {حكمة} خبر مبتدأ محذوف أو بدل من ما أومن مزدجر {بالغة} أي: لها أعظم البلوغ إلى أنهى غايات الحكمة لصحتها ووضوحها ففيها مع الزجر ترجئة ومواعظ وأحكام ودقائق {فما تغن} أي: تنفع {النذر} أي: الإنذارات والمنذرون والأمور المنذر بها ومنها إنما المغني بذلك هو الله تعالى فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن.قال البقاعي: ولعل الإشارة بإسقاط ياء تغني بإجماع المصاحف من غير موجب في اللفظ إلى أنه كما سقطت غاية أحرف الكلمة سقطت ثمرة الإنذار وهو القبول.تنبيه:يجوز في ما أن تكون استفهامية وتكون في محل نصب مفعولًا مقدّمًا أي أي شيء تغني النذر وأن تكون نافية أي لم تغن النذر شيئًا والنذر جمع نذير والمراد به المصدر أو اسم الفاعل.ولما كان صلى الله عليه وسلم شديد التعلق بطلب نجاتهم فهو لذلك ربما اشتهى إجابتهم إلى مقترحاتهم تسبب عن ذلك قوله تعالى: {فتولّ عنهم} أي: كلف نفسك الإعراض عن تمني ذلك فما عليك إلا البلاغ وأمّا الهداية فإلى الله تعالى وحده.تنبيه:قال أكثر المفسرين نسختها آية السيف وقال الرازي إنّ قول المفسرين في قوله تعالى: {فتولّ} منسوخ ليس كذلك بل المراد منه لا تناظرهم بالكلام وقوله تعالى: {يوم} منصوب باذكر، أي: واذكر يوم {يدع الداع}. وقيل: منصوب بيخرجون بعده والداعي معرف كالمنادي في قوله تعالى: {يوم ينادي المنادي} [ق:] لأنه معلوم قد أخبر عنه فقيل إنّ مناديًا ينادي وداعيًا يدعو، فقيل: الداعي إسرافيل عليه السلام ينفخ قائمًا على صخرة بيت المقدس قاله مقاتل، وقيل: جبريل عليه السلام وقيل: ملك موكل بذلك والتعريف حينئذ لا يقطع حدّ العلمية ويكون كقولنا جاء رجل فقال الرجل قاله الرازي. وقرأ نافع وأبو عمرو بحذف الياء بعد العين وقفًا وإثباتها وصلًا وابن كثير بإثباتها وقفا ووصلا والباقون بحذفها وقفا ووصلا {إلى شيء نكر} أي: منكر فظيع لم ير مثله فينكرونه استعظامًا.فإن قيل ما ذلك الشيء المنكر أجيب بأنه الحساب أو الجمع له أو النشر للجمع فإن قيل النشر لا يكون منكرًا فإنه أحياء ولأنّ الكافر من أين يعرف وقت النشر ما يُجزى عليه لينكره أجيب بأنه يعلم ذلك لقوله تعالى عنهم: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} [يس:].
|